المُجرم ظالمٌ أو مظلوم ؟!
إن الله عزَّ وجلْ عندما خلق الإنسان ووهبه عقلاً للتفكير ، ولساناً ناطقاً تمييزاً له عن باقي الكائنات ، وفطره بنفسٍ صافيةٍ كصفحةٍ بيضاء لا تشوبها أيُّ شائبة ، فلا يعرف الخير أو الشر ، ولا يعرفُ أيُّ أذىً ولا يعرفُ أيُّ إجرام ، وكُلُّ ذلك حتى يعيش بأمانٍ ويعمر الأرض بالخير ، فالأمن هو مصدر بناء الحياة في أيِّ مُجتمع وفي تطوره ، والإنسان منذ ولادته فطرته جيدة عمادها الخير ، ولا يعلم ما هو الحرام أو الأذى ، ولكن البيئة التي ينشأ فيها هي ما قد تؤثر فيه وتغرسُ فيه سلوكيات وتأثيرات سلبية أو إيجابية ، فلا يولدُ الإنسانُ شريراً أو مُنحرفاً ، فالحُكم على السلوك المُنحرف لأي فرد يعود إلى البيئة والقيم الإجتماعية المُحيطة به ، وللسلوكيات السيئة التي تجعله ينحرف عن الطريق القويم الذي خلقه الله تعالى ، قال تعالى في سورة الإنسان-الآية 3 : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } وقال أيضاً في سورة البلد – الآية 10 : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي أنه وضع أمامه طريقين هما الخير والشر ليختار بينهما ، فكل إنسان يلجأ إلى ارتكاب الأفعال غير المقبولة هو إنسان غير سوي ، وينتج عنه الكثير من المشاكل والمفاسد الضارة في المجتمع ، وكُلُّ ذلك سببهُ عدم تهيئة الجو النفسي والمناخ المُلائم للتربية والتوجيه والرعاية بصورة سليمة ، وكلُّ ذلك عائدٌ للبُعد عن الدين والتفكك الإجتماعي ، والأوضاع الإقتصادية السيئة .
فما نراه حالياً في مجتمعاتنا من تدهور اقتصادي وسياسي وانهيار أخلاقي ، يكون بيئة خصبة للعوامل التي تؤدي إلى الجريمة ، وذلك لحرمان الأفراد من أبسط مقومات الحياة ، والعيش بحياة كريمة ، وتأثير أمورٍ كثيرة دخيلة على مجتمعنا بالإضافة ولعل الأهم من ذلك هو البُعد عن الدين ، وهذا كُله يؤدي إلى ارتكاب الجرائم ،وكُلٍّ له أسبابه في ارتكاب جريمته .
إنِّ الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو الجرائم التي وقعت في مصر والأردن وأُخرى في دُبي وخاصة جريمة قتل الطالبتين في مصر والأردن في جامعتيهما والتي لم يفصل بينها إلا أيام قليلة ، وقد تشابهت أحداثها حيثُ المرتكبين من جيل الشباب الناشيء ومكان الحدوث في الجامعة لكلا الجريمتين ، وقد قاموا بجريمتهم البشعة بدون رادعٍ ديني أو أيُّ وازع أخلاقي ، وجريمة دُبي التي أقدم بها شخصٌ على قتل زوجته في مرآب العمارة ، وآخرها القاضي المصري الذي قتل زوجته المُذيعة وشوه وجهها بمادة حارقة ، وقد سبق هذه الجرائم الشاب المصري الذي قتل صديقه ، وقطع رأسه وحمله ماشياً في الشارع بين الناس ، فما الذي يدفع هؤلاء إلى ارتكاب هذه الأفعال وهذه الجرائم ؟ ، وأخصُّ بالذكر جريمة القاضي المصري الذي له مركزه بتمثيله للعدالة .
فما هي الجريمة ؟ الجريمة هي كُلُّ فِعلٍ يُقدِمُ الشخص على ارتكابه بدوافع فردية خالصة تُقلق حياة المُجتمع الذي يعيشُ فيه ، وتتعارض مع المستوى الأخلاقي السائد لديه ، وهي خرق للأُسس الأخلاقية وإلاجتماعية وضد مصالح المجتمع ككل ، وكما يقول عالم الإجتماع الفرنسي إميل دروكايم في نظريته المُسماه ( نظرية الأنومي ) وهذه النظرية تقوم على إخفاء المعايير الإجتماعية للمجتمع ، وتنعدم فيه كُل المعايير الإجتماعية ، وتنعدم فيه كل القواعد والأساسيات التي تكون موجهة للسلوك البشري ، وعدم التوازن السلوكي واختلال المبادئ التي تعمل على تنظيم حياة الفرد ، وضياع مفهوم التكافُل الإجتماعي .
لقد عرفت المُجتمعات البشرية الجريمة منذ أقدم العصور ، وهي من أخطر الظواهر الإجتماعية في كل المجتمعات البشرية ، وأنَّ أول جريمةٍ كانت في تاريخ البشرية هي قتلُ قابيل لأخيه هابيل حسداً له لآن الله عزَّ وجل قبِل قُربان هابيل ولم يتقبل قُربان قابيل .
والمجرمون في نظر المُجتمع فئة مرفوضةٌ إجتماعياً بسبب ما تُلحقهُ من أذىً في المجتمع ، ومن أضرار تطالُ أمنه واستقراره ، وتختلف النظرة للجريمة من مجتمعٍ لآخر ، فالفِعل الذي يُعدُّ سلوكاً إجرامياً في مجتمعٍ ما قد لا يكون كذلك في مجتمعٍ آخر ، والجرائم هي عدة أنواع فمنها جرائم اقتصادية وجرائم جنسية وجرائم سياسية وجرائم الإنتقام ولكن ما الذي يدفع إنساناً لكي يقوم بجرائمه ؟ ، وكما قلت سابقاً أنَّ هناك عوامل ومؤثرات تدفع هذا الشخص لارتكاب جرائمه ،وهي تقع تحت عاملين : أولهما : أسباب عامة تخُصُّ جميع أفراد المُجتمع والسبب الثاني خاص بالفرد الذي ارتكب الجريمة ، والجريمة العامة أسبابها هي :
أولاً : أسباب اجتماعية: مثل الفقر والجهل ، فهذه الأمور عندما تجتمع لدى الفرد، أو عندما يوجد أحدها فإنّ النَّفس والشَّيطان يوسوسان له بالقِيام بما هو خاطئ للتخلّص منها أو للبحث عن الراحة .
ثانياً : أسباب اقتصادية : ترجع إلى الفقر والبطالة ، وإلى النُظُم الإقتصادية المفروضة من الدولة ، مما يمكن أن يكون سبباً في دفع المجرم إلى تكرار الجريمة عدة مرات. من أجل التغلب على هذه الأسباب الاقتصادية التي يعتقد المجرم أنه لا يستطيع تجاوزها إلا بتكرار جريمته .
ثالثاً : أسباب ثقافية وإعلامية وحضارية : تؤدي إلى انفتاح المجتمع على المجتمعات الأخرى مما يكون سبباً في التأثير على الفرد فيما يراه ويسمعه من إجرام – خارجي – ليحاول تقليده والسير في ركب الجريمة بتكرارها وتنوعها ، فإن ما يأتي من أمور دخيلة على مجتمعنا من خلال وسائل التواصل الإجتماعي ، دون متابعة ورقابة من الأهل ، هي من العوامل التي تؤثر على نشأة الفرد ، نشأة غير سوية ، فما نراه من ألعاب ، كُلها تحضُّ على القتل ، وتولد في نفس الطفل الميول العدوانية .
وأما الأسباب الخاصة ومنها :
أولاً : انعدام الوازِع الدِّيني: والناتِج من عدم تثقيف الشَّخص بعلومِ الدِّين الإسلامي الصَّحيحة، فهناك الكثير من الأمور الدخيلة على ديننا ، والدينُ براءٌ منها جميعها.
ثانياً : التعامُل داخل الأسرة التي ينشأ فيها : فينطبع بعاداتها وقيمها بحيث تبقى آثار هذا الانطباع في جميع مراحل حياته فإذا كانت هذه الأسرة تحمل في قيمها وعاداتها ما يدعو إلى الجريمة ويرغّب فيها أو يسهّل ارتكابها فإن هذا الشخص يجد نفسه مُندفعاً إلى الجريمة ، ويعاودها مراتٍ ومرات ، وأكثر العوامل خطورة على الأبناء هي التفكُك الأُسري . وعدم مُتابعة شؤون أبنائهم وتصرفاتهم مع أصحابهم الذي يتعاملون معهم .
ثالثاً : البيئة الإجتماعية التي يعيش فيها : الفرد – مثل بيئة الحي والمدرسة وبيئة العمل, والصداقة, وما يكون في هذه البيئات من خير وشر فإذا كانت البيئة الإجتماعية يغلب عليها طابع الشر والفساد فإن الفرد سيتأثر بذلك وسيدفعه لارتكاب الجريمة ويُكررها مرة تلو الأُخرى ، وأكبر آفات المجتمع المدمرة لجيل الشباب هو انتشار المخدارات والمشروبات الروحية
رابعاً : أسباب اقتصادية خاصة بالفرد : تتمثل في الفقر الذي يدفعه لكسب المال بطرق غير سليمة .
خامساً : أسباب ثقافية : ترجع إلى المستوى العلمي والثقافي وإلى نوعية الثقافة التي حصل عليها الفرد فتدني المستوى الثقافي يجعل الإنسان جاهلاً بالأنظمة وبعواقب الجريمة فيقدم عليها . إنَّ نوعية الثقافة لها دورٌ أيضاً في التأثير الإيجابي أو السلبي في ارتكاب الجريمة فإذا كانت ثقافة الفرد ذات طابع إجرامي – نتيجة التأثر بالفكر الإجرامي – فإنه سيندفع لارتكاب الجريمة - عدة مرات - تحت تأثير هذه الثقافة .
سادساً : حب السيطرة وتحقيق الذات الشّاذة : فالبعض يظن أنه بارتكابه الجرائِم يكون قويّاً ، ويستطيع أن ُيخيف المحيطين به .
سابعاً : الكره والحقد : الذي يؤدّي بالشخص إلى الإجرام للإنتقام من شخصِ ما لسببٍ معيّن .
ثامناً : حب الفُضول والمغامرة وتجربة الأمور غير الطبيعيّة : وهذا طبعاً منافٍ للغريزة الطبيعيّة ، وكلُّ ذلك عائدٌ لتأثره بالألعاب الإلكترونية ، وبعض الأفلام الكرتونية التي ظاهرها خير وباطنها شر وموجهة لهذا الجيل الناشىء الذي يكون مُتعطشاً لكل شيء غريب ، ويحاول أن يُقلده .
عطفاً على ما تقدم أقول أن المُجرم هو نوعان حسب الظروف التي هو ينشأ فيها ، فقد يكون المُجرمُ ظالماً وقد يكون مظلوماً ، فالمظلوم هو نتيجة إهمال مجتمعه له ، وإهمال وأسرته له ، وذلك بعدم توفير الأمان والحياة الكريمة ، وذلك من خلال عدم تقديم التوعية والإرشاد منذ صغره ، وانتشار الإفكار الغريبة على المجتمع بدون وضع حدود من الدولة لمتابعة أبناء المجتمع ، والعامل الآخر هو التفكك الأسري الذي نتيجته الضياع للأبناء ، أما المجرم الظالم الذي ليس لديهِ سببٌ أو مبرر يدفعه لإرتكاب جريمته ، كحال هذا الشخص الذي له مركزه في القضاء ويُقدم على قتل زوجته بهذه الطريقة البشعة ، ومهما كانت أسبابه فهي تدلُّ على ضعف في شخصيته يولد فيه حالة انفصام في نفسيته تدفعه لارتكاب جريمته ، وكما قالت أجاثا كريستي : إنَّ الإنسان الضعيف قد يُصبح وحشاً مُفترساً إذا أُتيحت له الفرصة ، وإذا كان يشعر بالحقد على الحياة وعلى مجتمعه .
على الدول أن تضع برامج عدة لوقاية المجتمع من الجريمة ، وأن تضع قوانين تضبط الجريمة قبل وقوعها ، وكما يقول مصطفى صادق الرافعي : ( أنَّ آفة القوانين أنها لم تُسنْ لمنع الجريمة أو كبحها ، ولكن للعقاب عليها ) ومن البرامج الواجب وضعها لذلك هي كالآتي :
أولاً : وضع برامج متنوعة لعلاج المنحرفين مثل تحويل الرغبات والميول الخطرة عند الإنسان وعلاجها والعمل على الحد من حالات التعرض للإغراءات .
ثانياً : نشر الثقافة والوعي بين الناس والتي تتناول وضع الخطط والبرامج الشاملة من قبل السلطات والهيئات المختصة والتي من شأنها القضاء على العوامل المؤدية إلى الإجرام أو الظروف المهيئة له.
ثالثاً : الحد من استهلاك المشروبات الكحولية ومقاومة مروجي المخدرات واتخاذ كُل السُبل لمنعها ومعالجة المدمنين عليها .
رابعاً : حل المشاكل الاجتماعية بشكل جذري وبالذات في حالات الطلاق بين الأزواج فبعض الجرائم تحدث نتيجة خلل اجتماعي أو تفكك أسري أو نتيجة مرض نفسي أو لأسباب اقتصادية نتيجة الفقر وبسبب التهميش الاجتماعي .
وختاماً يجب إتباع سُبُل الوقاية التي تمنع وتحد من الجريمة ، وذلك من خلال مؤسسات وهيئات المجتمع المحلي
أولاً : الأُسرة : وهي أهم عنصر أساسي في نشأة الفرد وهي اللبِنة الأولى ، فإن كانت الأسرة قويمة وسلوكياتها وتربيتها صالحة سينشأ الفرد مستقيماً وخادماً ومُطيعاً لوطنه ومجتمعه ، أما إذا كان هناك تفكُكٌ أُسريٌ فسينتج عنه الضياع والإنحراف الذي سيؤثر عليه وعلى أسرته ومجتمعه ووطنه ، ولهذا يجب التركيز من الدولة على بُنيان الأسرة ووضع البرامج التوعوية والإرشادية لذلك .
ثانياً : المدرسة : هي العنصر المهم في صقل شخصية الفرد بعد أسرته ، وذلك بتوجيهه وتثقيفه وبناء شخصيته ، ووضع الحصص الإرشادية التي تحُضه على خدمة مجتمعه وتعريفه بقوانين الدولة
ثالثاً : الإعلام : هنالك أيضا دور هام للإعلام الذي يلعب دوراً هاماً في توجيه الرأي العام وتوعيته والتنبيه إلى مخاطر الجريمة والتحدث عنها وبإمكانه أن يلعب دورا مهما في منع الجريمة.
رابعاً : الإقتصاد : لا ننسى تأهيل الفرد لإكتساب مهنة يعتاش منها باحترام ، وكذلك الحد من البطالة التي هي من العوامل الدافعة للجريمة في حال لم يجد الوظيفة التي تؤهله للعيش بحياة كريمة ، وتدفعه إلى إرتكاب أي فِعل بدون أن يهتم للعواقب من أجل تأمين لُقمة عيشه .
كل العوامل التي ذُكِرت أعلاه إذا طُبِقت تمنع وتقلص إلى حد كبير نسبة الجريمة في المجتمع . إن وقاية المجتمع من الجريمة ليست عملية سهلة المنال ولكنها ليست مستحيلة .
إنَّ علاج ظاهرة الجريمة لا يكون بالندوات والمؤتمرات والمظاهرات بل برسم خطط علاجيّة شافية، وهي إجراء مسح في كل قرية ومدينة للشباب المنحرف فيها ولمثيري الفوضى والمشاكل والمتعاطون لكل الممنوعات على أنواعها وعلاجهم وتأهيلهم وإرجاعهم إلى حضن المجتمع وليس إهمالهم ونبذهم ، ومُلاحقة تُجار هذه السموم ووضع أقصى العقوبات الرادعة لهم ، لأنهم أكبر آفةٍ من آفات المُجتمع ، فتدميرهم للشباب ، دمار للمجتمع وللوطن ، وكذلك وضع برامج لكيفية علاج مشاكل العائلات المفككة في كل بلد، والاهتمام بأولادهم حتى لا يخرجوا منحرفين في المستقبل وعلاجهم بواسطة مكاتب الخدمات الاجتماعية، وكذلك منع تسرب الطلاب في جيل صغير من مقاعد الدراسة إلى سوق العمل دون أن يُكملوا تعليمهم ، فيكونوا عُرضة لإستغلالهم من ضعاف النفوس للقيام بأعمال تُخالف القانون ، والكثير من الأبحاث تشير إلى أنّ نسبة منهم ينقلب إلى مجرمين في المستقبل، فإذا طبق هذا البرنامج العلاجي في كل بلد، عندها سوف نقلص كثيرًا من ظاهرة العنف والجريمة في مجتمعنا. وكما قُلت سابقاً يجب الضرب بيدٍ من حديد على من يدفعون الشباب إلى عالم الجريمة بنشر المخدرات ، والأفكار الدافعة إلى الجريمة ، والعامل الأكبر الذي يحدُّ من الجرائم هو تطبيق القانون الإسلامي ، قال تعالى في سورة البقرة – الآيات 178-179 : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
28 / 6 / 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق