جبل ابن خفاجة.. إطلالة شاعرة
بقلم/ أحمد عيسى
ربما يتجلَّى لنا بعد هذه الإطلالة على "بائية ابن خفاجة" التي نخالها من عيون الشعر العربي كيف لشاعر غَزِلٍ لاهٍ يُدعى البستاني، ويلقب بصنوبري الأندلس، ويشتهر بالجَنَّان؛ لكثرة غزلياته ولهوه ووصفه لطبيعة الأندلس الخلابة وحدائقها الغناء، أن يصف جبلاً شامخاً بين عَدْوَتَي المغرب والأندلس، أتُرى لأن الشاعر عُمِّر طويلاً وسئم الحياة كما عُمِّر هذا الجبل؟!
يستهل الشاعر قصيدته متسائلاً ترى ما الذي دفعه لرحلة عبر الفيافي، تزجيه وتسوقه رياح الجنوب، سواء كان فوق ظهور الجِمال أو حادياً لها، وربما مُنيخاً بالإبل ومقيلاً.
بَعَيشِكَ هَل تَدري أَهوجُ الجَنائِبِ تَخُبُّ بِرَحلي أَم ظُهورُ النَجائِبِ
وهو في سفرته الطويلة وارتحاله الشاق إذا لاح له المشرق بكواكبه، سرعان ما تختفي هذه النجوم بمرور الوقت، مع بزوغ أجرام أخرى من جهة الغرب لا سيما إذا سجى الليل.
فَما لُحتُ في أولى المَشارِقِ كَوكَباً فَأَشرَقتُ حَتّى جِئتُ أُخرى المَغارِبِ
إن الشاعر في رحلته الصحراوية هذه يبدو منفرداً، تُسلمه صحراء إلى أخرى غير آمن، فتتضح له صور من المصارع، وأشكال من الحتوف خلال ظلمات الليل في الصحراء المرعبة.
وحيداً تَهاداني الفَيافي فَأَجتَلي وَجوهَ المَنايا في قِناعِ الغَياهِبِ
وهو في هذه الوحدة لا أنيس له من جارٍ ولا ديَّار، بل يأتنس إن هو ائتنس، بسيفه رهيف الحدِّ مستتراً أحياناً بركوبته ومتاعه.
وَلا جارَ إِلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمٍ وَلا دارَ إِلّا في قُتودِ الرَكائِبِ
وربما التمس الشاعر شيئاً من الطمأنينة إذا ما تعلق لحظاتٍ بأمنياته التي تبرق له مع ما ينازعه من رجاءات ويطمح إليه من آمال.
وَلا أُنسَ إِلّا أَن أُضاحِكَ ساعَةً ثُغورَ الأَماني في وُجوهِ المَطالِبِ
إن الشاعر كلما استشعر دنو مرور الليالي وانتهاء الظلمات، سريعاً ما يتبدد هذا الشعور مع استمرار الليل وجثومه فيتلاشى بذلك إحساسه غير الصادق.
وَلَيلٍ إِذا ما قُلتُ قَد بادَ فَاِنقَضى تَكَشَّفَ عَن وَعدٍ مِنَ الظَنِّ كاذِبِ
وفي الليل المظلم ساير الشاعر تخوم الظلام، ومرتفعات الدياجي، آملاً أن يحظى بإدراك آماله في نهار مشرق أبيض.
صحبتُ الدَياجي فيهِ سودَ ذَوائِبٍ لِأَعتَنِقَ الآمالَ بيضَ تَرائِبِ
والشاعر إذا أحس أن الليل الطويل كاد ينجلي، رمق بعينيه ذئباً مفترساً يكشر عن أنيابه في عبوس وتنمُّر فيدرك لحظتها أن الليل لا يزال يلفُّه والنهار ما زال عنه بعيداً.
فَمَزَّقتُ جَيبَ اللَيلِ عَن شَخصِ أَطلَسٍ تَطَلَّعَ وَضّاحَ المَضاحِكِ قاطِبِ
وطال ليل الشاعر حتى أنه ليرى كسفاً من الفجر الكاذب، فضحها نجمٌ تلألأ مبدداً شيئاً من غبش الليل وظلمته.
رَأَيتُ بِهِ قِطعاً مِنَ الفَجرِ أَغبَشاً تَأَمَّلَ عَن نَجمٍ تَوَقَّدَ ثاقِبِ
وصاحَب الشاعر في ترحاله جبلاً شامخاً عالي القمة كاد يلمس السماء بكاهله وجنباته وتضاريسه ونتوءاته.
وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُؤابَةِ باذِخٍ يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ
هذا الجبل لو أراد من فرط ضخامته حجب الرياح، أو إخفاء أجرام الليل الملتمعة برُباه وذُراه وتخومه لفعل.
يَسُدُّ مَهَبَّ الريحِ عَن كُلِّ وُجهَةٍ وَيَزحَمُ لَيلاً شُهبَهُ بِالمَناكِبِ
ويبدو هذا الجبل الأشم كعجوز وقور رابض بالصحراء، حنَّكته التجارب فهو مُطرق إطراق المتأمل المفكِّر في القضايا ومآلات الأمور والأحداث.
وَقورٍ عَلى ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ طِوالَ اللَيالي مُفَكِّرٌ في العَواقِبِ
يبدو جبل ابن خفاجة كشيخ تلفُّ عليه السحب والغمام ما يشبه العمامات السوداء، وحين تبرق السماء بشفق أحمر خِلْتَ هذه العمامات موشَّاة بذيول حمراء.
يَلوثُ عَلَيهِ الغَيمُ سودَ عَمائِمٍ لَها مِن وَميضِ البَرقِ حُمرُ ذَوائِبِ
لقد تفاعل الشاعر مندمجاً مع الجبل فجرده من جماديته وأدخله في عالم الإنسان، وبأنسنة الشاعر للجبل نراه يرعى سمعه للجبل ليقص الجبل عليه غرائبَ تُلطِّف من سير الشاعر وتهِّون من وعثاء سفره.
أَصَختُ إِلَيهِ وَهوَ أَخرَسُ صامِتٌ فَحَدَّثَني لَيلُ السُرى بِالعَجائِبِ
ويروي الجبل أنه كثيراً ما كان سِتراً للقتلة المجرمين الفارِّين المُكتنِّين بأعطافه والمختبئين بحناياه، ولطالما كان صومعة للمتأوهين الضارعين من المتحنثين لله التائبين إليه.
وَقالَ أَلا كَم كُنتُ مَلجَأَ قاتِلٍ وَمَوطِنَ أَوّاهٍ تَبَتَّلَ تائِبِ
واسترسل الجبل في قصِّه وحكاياته فلطول مقامه كم شهد من السالكين بالليل والعائدين من التسفار، والمنيخين بظلاله مطاياهم وأمتعتهم بعد أن ألقوا جميعاً عصا التسيار.
وَكَم مَرَّ بي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوِّبٍ وَقالَ بِظِلّي مِن مَطِيٍّ وَراكِبِ
وكما شهد الجبل أحداثاً أرضية على سفحه، شهد أيضاً أحداثاً طالت السماء سموقاً، فكم جابهت الجبل رياح عاتيات في ذراه وجنباته العالية، وكم تكاثرت على نتوءاته العالية سحب مسوقة من مياه البحار المتبخرة حوله.
وَلاطَمَ مِن نُكبِ الرِياحِ مَعاطِفي وَزاحَمَ مِن خُضرِ البِحارِ غَوارِبي
إن كل من مرَّ بالجبل أو تعرَّض له كانت خاتمته بنهاية الأجل المحتومة، فإما أن يقضوا باستيفاء آجالهم، وإما عاجلتهم أقدارهم بحتوف ومنايا من رياح مدمرة أو مصائب مزلزلة.
فَما كانَ إِلّا أَن طَوَتهُم يَدُ الرَدى وَطارَت بِهِم ريحُ النَوى وَالنَوائِبِ
إن ما تسمعه أيها الشاعر من حفيف شجرٍ، أو اهتزاز أغصانٍ، ما هو إلا اختلاجات في صدري، وما يصل إلى أذنيك من هديل الحمام إن هو إلا أنَّاتٌ مكتومة صادرة عن بثي وحزني وعويلي ومكابدتي.
فَما خَفقُ أَيكي غَيرَ رَجفَةِ أَضلُعٍ وَلا نَوحُ وُرقي غَيرَ صَرخَةِ نادِبِ
ولا يغرنك تماسك عيوني عن الدمع فالأشجان التي ألمَّت بي كثيرة، ولا يزال الحزن على فراق أحبتي قابعاً في صدري، أما دمع العيون فنفد منذ زمان، وما تراه من تجلُّدي وصبري ليس ضناً بالبكاء فكم بكيت حتى جفَّ مدمعي!
وَما غَيَّضَ السُلوانَ دَمعي وَإِنَّما نَزَفتُ دُموعي في فِراقِ الصَواحِبِ
لقد طال أجلي، وامتد بي العمر، فإلى متى يظل مكوثي أودِّع أناساً ذاهبين راحلين غير آيبين ولا عائدين.
فَحَتّى مَتى أَبقى وَيَظعَنُ صاحِبٌ أُوَدِّعُ مِنهُ راحِلاً غَيرَ آيِبِ
وإلى متى أسامر أجرام السماء، وأشاركها سهر الليالي، فإن أفل بعضها في بقعة من السماء بزغت كواكب ونجوم أخرى ليستمر معها سهري ونَصَبي.
وَحَتّى مَتى أَرعى الكَواكِبَ ساهِراً فَمِن طالِعٍ أُخرى اللَيالي وَغارِبِ
يا الله، ليس لي إلاك أنا عبدك وأنت مولاي، ارحمني وتقبل دعائي، ولا ترد كفَّ آملٍ يطمع في آلائك وكرمك ورضاك.
فَرُحماكَ يا مَولايَ دعوَةَ ضارِعٍ يَمُدُّ إِلى نُعماكَ راحَةَ راغِبِ
لقد استمع الشاعر إلى ما بثه الجبل من عظاتٍ، وألوانٍ من الحكمة ولَّدتها تجاربُ الحياة، وأثارتها مؤانسة الشاعر فجَرتْ على لسان الجبل حِكَماً وعِبراً.
فَأَسمَعَني مِن وَعظِهِ كُلَّ عِبرَةٍ يُتَرجِمُها عَنهُ لِسانُ التَجارِبِ
لقد كان الجبل خير جليس وأنيس للشاعر منحه عظاتٍ غاليات مُبكيات، وخفَّف عنه قسوة الليل بأشجان لطَّفت من ضراوة الليل والصحراء التي برَّحت به.
فَسَلّى بِما أَبكى وَسَرّى بِما شَجا وَكانَ عَلى عَهدِ السُرى خَيرَ صاحِبِ
أخيراً تأتي لحظة الوداع، وأنَّات الفراق؛ إذ فارق الشاعر الجبل كما فارقه غيره من المارِّين به لمهمَّات وحاجات لا بد من قضائها، فلا يزال الجبل جاثماً باقياً مترجلاً ولا يزال الشاعر ظاعناً مرتحلاً ومودعاً.
وَقُلتُ وَقَد نَكَّبتُ عَنهُ لِطِيَّةٍ سَلامٌ فَإِنّا مِن مُقيمٍ وَذاهِبِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق