قصة قصيرة \ ( تــصــبــحـــون عــلـــى نــــق )
" النَّق. وما أدراكم ما النَّق؟ هو صوت الحجلة. صوت الدجاجة للبيض. صوت الرخمة شبيه النسر. صوت الضفادع. صوت النعامة " ، قال الأستاذ هذا ثم حدّق في عيون طلابه ليستشعر مدى إستيعابهم للدرس.
رفع طالبٌ يده يطلب إذن الكلام.
" تفضّل" ، قال الأستاذ.
- " أستاذ. أمتأكد أنتَ بأن النق هو صوت هؤلاء؟"
- " نعم متأكد".
- " والإنسان؟ ألا ينقّ هو أيضاً ؟ ".
- " لا. الإنسان يتكلم ولا ينق".
- " الإنسان لا ينقّ؟!"
- " لا. هذه إستعارة لغوية".
- " إستعارة ماذا؟"
- " دعك من ذلك. حين نقول (هذا الإنسان ينق) ، أو (ذاك ينق) ، لا نعني النق بالمعنى الحرفي للكلمة. بل بالمعنى المجازي".
- " مجازي؟ "
يفكّر الأستاذ قليلاً ثم يقول :
" حسناً.النق هنا يعني الحديث السلبي، بحيث يصبح صوت الإنسان مزعجاً كصوت الدجاج ".
- " أنا لا يزعجني صوت الدجاج".
- " ليس هذا موضوعنا الآن! ما يزعجك وما لا يزعجك ليس الموضوع. الموضوع هو النق الإنساني. فقهاء اللغة شبّهوه بصوت الدجاج".
- " فقهاء؟"
- " دعك من الفقهاء. أقصد الذين يعلمون. الذين يعرفون".
- "وماذا قالوا الذين يعلمون والذين يعرفون؟"
- " شبّهوا صوت الشاكي الدائم بصوت الدجاج".
- " آه. هذا يعني أن الكل دجاج؟ ".
- " الكل دجاج؟ كيف؟"
- " لأن الكل ينق. أمي تنق. أبي ينق. عمّي ينق. جاري ينق. خالي ينق. التلفاز ينق. مذيع التلفاز ينق. رجل الدين الذي يبشّر بالله وبالجنة ينق. حتى منظّم حفلات الأفراح والأعراس ينق".
رنّ جرس انتهاء الحصّة ، فتنفّس الأستاذ الصعداء ، وخرج من الصف هارباً من مطرقة الطالب اللجوج.
صادفه أستاذ آخر يمشي في الرواق ، فراح يقصّ له ما حدث في الصف:
" طلاب هذه الأيام كثيرو الأسئلة. لا تعجبهم أي إجابة. يتلكمون مع الأستاذ كأنه صديقهم.
لقد تغيّر الزمن. أين كنّا وأين أصبحنا يا صديقي. كنّا نبحث عن العلمِ أينما كان. وكانت عيوننا تنظر في الأرض كلما حدّثنا أستاذنا. لكن هذا الجيل. آه من هذا الجيل. جيل هذه الأيام لا يكترث لشيء. جيل هذه الأيام ...)
قاطعه الطالب اللجوج :
- " أستاذ! أستاذ!"
- "ما بك؟" ، صاح الأستاذ
- " أنت أيضاً تنق".
أدار الأستاذ ظهره ودخل غرفة المعلمين حاملاً رأسه بين كفّيه.
أعاد رأسه إلى مكانه الطبيعي.
" فنجان شاي الآن يكون أفضل مهدىء للأعصاب" ، حدّث نفسه.
وفيما كان يكور شفتيه للإرتشافة الأولى، داهمه صوتٌ جهوريٌ صدح فجأة من خلفه . أصيب الفنجان بالقشعريرة ، فانتصب الشاي من شدّة الفزع ، وهرب من الفنجان، مختبئاً في بنطال الأستاذ.
" ما هذا؟ " ، صاح الصوت.
ثم أكمل إطلاق الرشقات :
" هؤلاء الأهالي. لا يعجبهم العجب. نعلّم أولادهم ولا يشكرون. ألا يعلمون أننا نتعب؟ ألا يفقهون أننا بشر مثلهم؟ وأنتم؟ أنتم أيها الأساتذة. تجلسون هنا ترتشفون القهوة والشاي وكأن لا عمل لديكم. لماذا هذه الأوراق المبعثرة؟ لماذا هذه الدفاتر هنا؟ آآخ. أأتت عاملة التنظيفات؟ طبعاً السكاكر خارج علبها. أغلقوا الشبابيك. ما هذا؟ شتاء؟ يا لهذه الريح اللعينة ... " .
وكان صوت الناظر يعلو رويداً رويداً حين جاءت عاملة التنظيفات. جالت بنظرها شمالا ويمينا، ولما رأت الشاي المنجلق، راحت ترثي حالتها:
" ما هذا؟ أنظف ويوسخون. أرتّب ويبعثرون. ماذا يعتقدونني؟ آلة تنظيفات؟ أوامر كل دقيقة. لا فترة إستراحة. وكأنني هرٌّ مطيع. تعالي يا زبيدة. إذهبي يا زبيدة. نظفي يا زبيدة. رتبي يا زبيدة ".
وفيما كان الناظر يكمل كلامه ، وزبيدة تستفيض في شرحِ مآسيها ، راح صوت أحد الأهالي ، يصدح من خارج الغرفة، يشكو حالته لصديقه على الهاتف الجوّال :
" الغلاء. الإيجار. الأسعار. الجيران. الجيران ثقيلو الدم. الكهرباء؟ بالكاد تأتي. الصوبيا؟ بالكاد تدفىء.
النرجيلة؟ بالكاد تدخّن. التفاحتين؟ آدم سقط من الجنة بسبب تفاحة. فكيف بتفاحتين؟"...
هنا ، خرج المدير من مكتبه ، بعد سماعه كل تلك الأصوات اليائسة ، فجمع الجهاز التعليمي وعاملي النظافة من حوله ، وباعتباره قبطان السفينة ، أخذ يقصّ لهم هذه الحكاية :
( كان سعيد كثير النق. لا يعجبه العجب. ورغم أن حالته الإقتصادية جيدة ، كان كثير الشكوى. غزير الإحتجاج. يشكو من القلة.
وذات يومٍ ، ضجر من نقِّه حتى الله ، فأمر ملائكته بإعطائه ثلثي الدنيا.
فرح سعيدٌ بالثلثين ، لكن لفترة قصيرة . وبعد يومين أو ثلاثة على الأكثر ، عاد ينقّ ... وينقّ ... وينقّ.
" ماذا تريد؟ "، قال صديق سعيد لسعيد.
أجابه سعيد : " ما هذا يا مفيد؟ أعطاني الله ثلثي الدنيا وحرمني من الثلث . هذا ليس بعدلٍ. هذا ظلم. هذا إجحاف بحقي".
وذات يومٍ ، ضجر الله من نقِّ سعيد ، فأمر ملائكته
بإعطائه الثلث الأخر. أي كل الدنيا.
ولما حصل سعيد على كل الدنيا ، وصارت كنوزها وذهبها وماسها وأشجارها وشمسها وجنانها وصحاريها بين يديه ، فرح ليومين أو ثلاثة أيام ، لا أكثر.
وبعدها ، راح يكرّر سيمفونية النق شاكياً لله :
" لماذا أعطاني كل الدنيا؟
ألا يدرك أنه حرمني بفعله هذا متعة تحقيق الأهداف؟
لأي سببٍ الآن أعيش؟ لماذا أستيقظ في الصباح؟
بما أن كل شيءٍ صار ملكي ، لماذا أعمل؟ ما هذا؟
ما هذا الظلم؟ أنا حزين . حزين جداً. والله والقدر هما المسؤولان عن حزني ....).
انتهى المدير من سرد القصة ، ثم قال لمن حوله :
" أرأيتم؟ النق مثل الرمال المتحركة. مثل الثقوب السوداء. متى بدأت بالأكل لا تشبع. وعلى الإنسان أن يقتنع. أن يرى الخير في كل الأمور. أن يكون إيجابياً لا سلبياً. وكما يقول الإمام علي : القناعة كنزٌ لا يفنى ".
وحين انتهى المدير من نصائحه وعاد مساءً إلى البيت، سأل زوجته : " ماذا طبختِ لي اليوم يا فريدة؟".
أجابت الزوجة ، بعد أن حضنته :
" اليوم طبخت لك فاصوليا يا حبيبي ".
- " فاصوليا؟! ما هذا؟ الأسبوع الماضي أكلنا فاصوليا. يا لهذا النهار النحس. بعد جهدٍ وعملٍ طويل، الف تستقبلينني
بالفاصوليا؟ ألا يكفي حديثك المزعج مع أمك لساعات وساعات كل يوم؟
ألا يكفي هذا البرنامج التافه الذي تشاهدينه كل ليلة؟
ألا يكفي هذه الغسّالة اللعينة التي تزعجني بسعالها المزمن؟ ألا يكفي ماذا قال لك والدك عنّي يوم عرسنا؟
ألا يكفي إبنك نظير وأنفه المفلطح؟ "...
وفيما كان المدير يكمل نقّه أمام زوجته ، ومذيع الأخبار ينق عن الكورونا ، والنجوم تنق بسبب كثرة الغيوم ، والقمر ينق بسبب شح الساهرين على الشرفات ، كان الطالب اللجوج في
سريره ، يفكّر بكلمة قد سمعها من أستاذه صباحاً :
" فقهاء؟!"
( بقلم ربيع دهام)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق